
دخل الحيّ رجل غريب الأطوار. هو من البلاد، أصيل المنطقة وأهله معروفون، لكنّه غاب طويلًا. وعندما عاد، لم يكن هو ذاته: يُصافح بأطراف الأصابع، يتحدث بعربية ناعمة، يركب سيارة لا تشبه شيئًا في شوارع المدينة، ويحمل قهوة باردة . جلس في قهوة البحّارة، تحت شجرة التين اليابسة، ونظر إلى البحر نظرة حنين غامضة… ثم قال: “اشتقت لأهلي وأرضي، وأحب أن أقدّم شيئًا… أنا، والحمد لله، ميسور الحال.” — في اليوم الأول، اقترب منه عم “المنصف المايل” — شيخ الحومة وراعي المبادرات غير الموثقة — واقترح عليه تمويل إعادة تهيئة “ركن الترفيه للشباب المثقف”، وهو في الحقيقة طاولة مكسورة ودرجان من أرشيف مكتبة قديمة. فدفع. في اليوم الثاني، دعوه لرعاية فعالية رياضية اسمها: “ماراثون الكرنيش بلا ركض.” قيل له: “المهم المشاركة والتصوير… والباقي عند الله.” فموّل القمصان، والقبعات، وقنينات الماء، وحتى شهادات المشاركة بختمٍ غير مفهوم. ولأنه لا يحب التفرقة، لم يترك ناديًا أو جمعية رياضية إلا وكان فيها “المموّل الأكبر”، حتى أولاد “جمعية مشي السلاحف” صاروا يرتدون قمصان موقعة باسمه. ثم جاء دور البنات، الجميلات، اللطيفات، طلبن آيفونات، وأحذية، وحقائب من أفخم الماركات العالمية. وهو… لم يتعلم يومًا أن يقول “لا” لامرأة. فدفع. أما الشبان، فدعوه إلى سهرة فوق سطح “دار خالة فضيلة”، عنوانها: “ليلة حنين وتراث.” لكنها كانت مليئة بالأضواء، وموسيقى إلكترونية، وعشرون شابًا لا يعرفون من التراث سوى “كسكسي بالدجاج”. دفع. وابتسم. ثم جاءت المشاريع… مطعم “الكسكسي الذكي” الذي يحلل حالتك النفسية ويقترح نوع الكسكسي المناسب. مشروع تربية الدجاج في الشرفات. وتطبيق “وصّلني يا ولد عمّي” لتوصيل الحرفاء… دون رخصة قيادة. قالوا له: “فرص لا تتكرر! نحتاج دعمًا بسيطًا فقط… والباقي عند ربي.” فدفع. ومع مرور الأيام، غُمر بلطافة أولاد الحومة، ودفء “الخيتل”. دخل نادي “صنّاع الحظ”، ثم تعرف على مجموعة نساء، قيل إنهنّ “فاعلات خير”، ثم انغمس في كل أنواع المتع… حتى نسي نفسه، ونسيه الجميع. وذات ليلة، انتشر خبرٌ في القهوة: “الوضع غير مريح، والسلطات تتابع حركة الأموال المشبوهة في بعض الأحياء.” وفي صباح اليوم التالي… اختفى. قيل إنه سافر إلى بلد بعيد، قيل إنه غيّر ملامحه وهويته، وقيل إنه شوهد على شاطئ الزمبيبار، يرقص مع الفتيات رقصة السالسا الشهيرة، وكان يُعرّف نفسه هناك باسم: ماركو. العبرة: لا تدخل حيًّا تونسيًا وتُعلن أن لك مال كثير، لأنهم لن يطلبوا منك شيئًا… بل سيتركونك تُقدّم كل شيء بنفسك، وبابتسامة. ستدفع عن طيب خاطر، وتساهم بحماسة، ثم تستيقظ يومًا لتكتشف أنك أصبحت غريبًا عن نفسك، وعن اسمك، وعن بلادك. وحين تُحاول العودة إلى ما كنت عليه، ستُدرك أن القطار غادر، وأنك الآن… ماركو في الزمبيبار.