فيروز التسعينية: ذكرى تُخلّدها الألوان
يشهد لبنان في هذه الأيام احتفالًا استثنائيًا بعيد ميلاد أيقونة الغناء العربي فيروز التسعين، متحديًا ظروف حرب الإبادة الوحشية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلية على لبنان. وفي حين تدوي أصوات القصف في محيط بعلبك التاريخية، تتعالى أصداء صوتها الملائكي عبر أثير الإذاعات ومنصات التواصل الاجتماعي، مؤكدة مكانتها كرمز وحدوي نادر في بلد مزقته الأزمات.
وأضفى الفنان التشكيلي اللبناني منصور الهبر بعدًا جديدًا على احتفالات هذا العام، إذ أنجز مجموعة رسوم رقمية بأسلوب الفن الشعبي (بوب آرت)، مستلهمًا تقنيات الفنان الأميركي التشيكي الأصل آندي وارهول الشهير. وفي عمل إبداعي متميز، جمع الهبر تسعين نسخة لوجه السيدة فيروز في لوحة واحدة، تمثل كل نسخة عامًا من حياتها الحافلة بالعطاء، مستخدمًا برنامج “فوتوشوب” لتنفيذ هذا العمل الذي نشرته صحيفة “النهار” اللبنانية في ملف خاص.
وفي حديث خاص لوكالة فرانس برس، كشف الهبر (54 عامًا)، أستاذ الرسم التقليدي في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا)، عن اختياراته الفنية الدقيقة للألوان. حيث هيمن اللون الفيروزي على الوجوه والخلفية، ممتزجًا مع البرتقالي الدافئ والأزرق الليلي والأحمر النابض، في تناغم يعكس عذوبة صوتها الاستثنائي وحضورها الباهر.
وعلى المستوى الدولي، احتفى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالمناسبة، ناشرًا على حسابه في إنستغرام تحية خاصة لمن قلّدها وسام الشرف الفرنسي في منزلها ببيروت عام 2020، واصفًا إياها بالسيدة التي تجسد روح المنطقة بهيبة. وتفاعل الفنان اللبناني مارسيل خليفة مع الحدث على صفحته في فيسبوك، كاتبًا “صوت فيروز وطني”، داعيًا إياها للغناء مجددًا في ظل ما يشهده الوطن من أحداث مؤلمة.
ولدت نهاد حداد، المعروفة بفيروز، في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1934 في حي زقاق البلاط ببيروت، الذي استهدفته مؤخرًا غارة إسرائيلية. اكتشف موهبتها المدير الموسيقي للإذاعة اللبنانية حليم الرومي في أواخر الأربعينيات، مطلقًا عليها اسم “فيروز” تيمنًا بالحجر الكريم الأزرق، لتبدأ بعدها رحلة فنية استثنائية امتدت لأكثر من خمسين عامًا.
جابت فيروز أشهر المسارح العالمية، من الأولمبيا في باريس إلى الرويال ألبرت هول في لندن ولاس فيغاس، محققة شهرة عالمية منذ خمسينيات القرن العشرين. وفي مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” عام 1999، عبرت بحسرة عن تغير وجه لبنان الذي طالما تغنت به، مشيرة إلى التحولات العميقة التي شهدها وطنها.
شكّلت مع الأخوين عاصي ومنصور الرحباني ثلاثيًا فنيًا أسطوريًا منذ مطلع الخمسينيات، قدموا معًا تراثًا غنائيًا ومسرحيًا فريدًا، مازجين الألحان الشرقية بالفولكلور اللبناني والموسيقى الغربية. وتوسعت قاعدة جمهورها لاحقًا بتعاونها مع نجلها زياد الرحباني، الذي أضاف أنماطًا موسيقية معاصرة إلى رصيدها الفني.
غنّت فيروز للحب والوطن والحرية وفلسطين، وخلّدت ذكرى لبنان في أعمالها. وفي عز الحرب الأهلية، أنشدت أغنيتها الشهيرة “بحبك يا لبنان”، لتصبح نشيدًا وطنيًا غير رسمي. تعاونت مع نتاج كبار الشعراء والأدباء أمثال جبران خليل جبران وسعيد عقل وأحمد شوقي، محولة قصائدهم إلى أيقونات غنائية خالدة.
ورغم ابتعادها عن الأضواء منذ أكثر من عشر سنوات، لا يزال صوتها الاستثنائي، الذي وصفه النقاد العالميون بالمعجزة الموسيقية، يرافق ملايين المستمعين في كل صباح. بات نتاجها الفني جزءًا لا يتجزأ من تراث لبنان والعالم العربي، من خلال مجموعة واسعة من الأعمال الغنائية والمسرحية والأفلام السينمائية التي جمعت بين التراث والمعاصرة.